الإمهال القضائي بين القواعد العامة وقانون حماية المستهلك
يعتبر العقد من أهم الوسائل التي ابتكرها الفكر القانوني لتنظيم العلاقات الاقتصادية والاجتماعية بين الأفراد بعضهم ببعض، وبين الأفراد وبعض المؤسسات الخاصة[1 .[ذلك أن العلاقات التعاقدية التي تنشأ بين أطرافها تسعى إلى تحقيق غايات قانونية ذات طابع اقتصادي واجتماعي، قصد إشباع حاجياتهم المتنوعة والمتعددة. لذلك لم تكن الغاية من العقد مجرد إنشائه، وإنما جعله قابلا للتنفيذ. ولما كان أساس العقد هو الإرادة المشتركة لطرفية باعتبارها المنشئة للالتزام والمحددة لآثاره، فإن القوة الملزمة لهذا العقد تحتم على طرفيه الرضوخ والإذعان له في كل ما يحتويه، وتلزم المتعاقد بتنفيذه وفقا لمضمونه[2.[
وبما أن الوفاء هو السبب الطبيعي والطريق المألوف لانقضاء الالتزامات[3 ،[فيجب على المدين الوفاء بالالتزامات التي تعهد بتنفيذها. وواجب تنفيذ العقود يجد أساسه الشرعي في قوله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود... ﴾[4 ،[وبالتالي فالوفاء بالعقود والامتثال للعهود والمواثيق يؤدي حتما إلى استقرار المعاملات.
وتنفيذ الالتزامات يجب أن يتم وفق ما ارتضته إرادة طرفي العقد، سواء على مستوى موضوعه أو مكان تنفيذه أو زمانه، ذلك أن القاعدة الأساسية التي تؤطر العلاقات التعاقدية وهي ”العقد شريعة المتعاقدين“[5 ،[تقضي بأن ما انصرفت إليه إرادة الأطراف يتعين تنفيذه بالشكل، وفي الأجل الذي تم الاتفاق عليه. ولكن قد تحول ظروف خارجة عن إرادة المدين تجعله عاجزا عن تنفيذ الالتزام في الآجال المتفق عليها، لا سيما عندما يتعلق الأمر بالعقود الممتدة عبر الزمن، لأنه قد تطرأ مجموعة من التغييرات ما بين تاريخ إبرام العقد وموعد الوفاء به.
ولما كان الوفاء بالعقود يجد أساسه في البواعث الأخلاقية والدينية قبل المقتضيات القانونية، فإن نفس البواعث يتم اعتمادها عندما يصبح المدين في مركز يصعب معه الوفاء بدينه في الآجال المتفق عليها، حيث تمنح للمدين المعسر مهلة للوفاء بدينه، وفقا لقوله عز وجل: ﴿وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة...﴾[6.[ ونظرا لوضعية المدين الاقتصادية والاجتماعية، فإن للقضاء وحده صلاحية قبول أو رفض طلب الإمهال القضائي، وذلك حسب ما له من سلطة تقديرية في ذلك.
والمشرع المغربي بعدما كان يمنع على القضاة منح أجل قضائي للمدين من أجل تنفيذ التزامه أصبح ومنذ سنة 1917]7[يخول للقضاة إمكانية منح المدين المعسر أجلا للوفاء.
إذ جاء في الفقرة الثانية من الفصل 243 من قانون الالتزامات والعقود[8 [ما يلي: ”...ومع ذلك يسوغ للقضاة، مراعاة منهم لمركز المدين ومع استعمال هذه السلطة في نطاق ضيق، أن يمنحوه آجالا معتدلة للوفاء، وأن يوقفوا إجراءات المطالبة، مع إبقاء الأشياء على حالها“.
فهذه السلطة الممنوحة للقضاء والتي بموجبها يمنح أجلا للمدين من أجل الوفاء بالتزامه خارج الآجال المتفق عليها شكلت استثناء بالنسبة للأسس التي يقوم عليها مبدأ سلطان الإرادة.
لكن، ظهور أنماط جديدة من التعاقد بسبب ما عرفته المعاملات الاقتصادية والتكنولوجية من تطور، أدت إلى عدم تكافؤ المراكز القانونية والاقتصادية للمتعاقدين، حيث أصبح المستهلك طرفا ضعيفا في علاقته بالمورد، وهو الأمر الذي جعل القواعد العامة قاصرة على ضبط التوازن بين أطراف العقد الاستهلاكي، لأجل ذلك سارع المشرع المغربي إلى إصدار القانون رقم 08.31 المتعلق بتحديد تدابير لحماية المستهلك[9 ،[من أجل الحفاظ على استمرار العلاقات التعاقدية، واستقرار المعاملات.
ولعل من أبرز المقتضيات التي تجاوز فيها القانون 08.31 القواعد العامة، هي تلك المتعلقة بالإمهال القضائي، حيث نصت المادة 149 من القانون أعلاه على أنه: “ بالرغم من أحكام الفقرة الثانية من الفصل 243 من الظهير الشريف الصادر في 9 رمضان 1331) 12 أغسطس 1913 (بمثابة قانون الالتزامات والعقود، يمكن ولا سيما في حالة الفصل عن العمل أو حالة اجتماعية غير متوقعة أي بوقف تنفيذ التزامات المدين بأمر من رئيس المحكمة المختصة ويمكن أن يقرر في الأمر على أن المبالغ المستحقة لا تترتب عليها فائدة طيلة مدة المهلة القضائية.
يجوز للقاضي علاوة على ذلك أن يحدد في الأمر الصادر عنه كيفيات أداء المبالغ المستحقة عند انتهاء أجل وقف التنفيذ، دون أن تجاوز الدفعة الأخيرة الأجل الأصلي المقرر لتسديد القرض بأكثر من سنتين. غير أن له أن يؤجل البت في كيفيات التسديد المذكورة إلى حين انتهاء أجل وقف التنفيذ“.
يكتسي موضوع الإمهال القضائي بين القواعد العامة والقانون 08.31 المتعلق بتحديد تدابير لحماية المستهلك أهمية بالغة، لكونه سيمكننا من الوقوف على أهم مكامن القوة والضعف بالنسبة لمقتضيات الإمهال القضائي، سواء في إطار القواعد العامة أو في القانون رقم 08.31 .كما تتجلى هذه الأهمية أيضا على مستوى الآثار المترتبة عن استفادة المدين من الإمهال القضائي، ذلك أنه لا يؤدي إلى انحلال الرابطة العقدية بين الطرفين.
ترجع أسباب اختياري للموضوع إلى مقارنة مقتضيات الإمهال القضائي بين القواعد العامة والقانون رقم 08.31 ،وإبراز أهم الحالات الموجبة لاستفادة المدين من هذا الإمهال القضائي.
كما تتجلى أيضا دوافع الاختيار في رصد تطور الاجتهادات القضائية في الموضوع، والوقوف على أهم الإشكالات التي يثيرها.
صعوبات البحث:
تتجلى هذه الصعوبات بالخصوص في قلة المراجع التي لها صلة مباشرة بالموضوع خاصة في إطار المستجدات التي جاء بها القانون 08.31.
إضافة إلى صعوبة الولوج للمحاكم من أجل الحصول على الاجتهادات القضائية وصعوبة الحصول على المعلومات من قبل المؤسسات البنكي
إشكالية الموضوع:
إذا كان المشرع المغربي قد كرس لأجل حماية الطرف الضعيف في العلاقة التعاقدية عدة ضمانات، فإن آلية الإمهال القضائي تعتبر من بين أهم هذه الضمانات التي تحافظ على التوازن العقدي بين أطرافه، وتهدف إلى استقرار المعاملات.
لهذا يقتضي منا الأمر أن نطرح إشكالية مفادها:
هل استطاع المشرع المغربي من خلال تكريسه لآلية الإمهال القضائي سواء في إطار القواعد العامة أو في ظل القانون رقم 08.31 ،أن يوفق بين وضعية المدين الاجتماعية ومصالح الدائن الاقتصادية؟ وتتفرع عن هذه الإشكالية المحورية مجموعة من الإشكاليات الفرعية وهي كالآتي:
ما هي الأحكام العامة المنظمة للإمهال القضائي؟
ما هي المستجدات التي جاء بها القانون رقم 08.31 بخصوص الإمهال القضائي؟
كيف يتعامل القضاء مع طلبات الإمهال القضائي؟
منهجية البحث:
لمقاربة هذا الموضوع وتحليله والإجابة عن الإشكالية الأساسية والإشكالات الفرعية، اعتمدت على المنهج التحليلي، وذلك من خلال تحليل المقتضيات القانونية المنظمة للإمهال القضائي، كما اعتمدت أيضا على المنهج المقارن.
وذلك بمقارنة مقتضيات الإمهال القضائي في التشريع المغربي وبعض التشريعات المقارنة الأخرى، خاصة التشريع الفرنسي، بالإضافة إلى اعتماد مناهج أخرى أهمها المنهج النقدي والمنهج التاريخي[10.
وكل ذلك من خلال تقسيم هذا الموضوع إلى فصلين:
الفصل الأول:
الأحكام العامة للإمهال القضائي.
الفصل الثاني:
الإمهال القضائي على ضوء قانون حماية المستهلك
وكل ذلك من خلال تقسيم هذا الموضوع إلى فصلين:
الفصل الأول:
الأحكام العامة للإمهال القضائي.
الفصل الثاني:
الإمهال القضائي على ضوء قانون حماية المستهلك
محمد بويحيي