ربط المسؤولية بالمحاسبة
من المستجدات التي جاء بها تعديل الدستور سنة 2011 أنه نص ضمن الفقرة الثانية من الفصل الأول على ربط المسؤولية بالمحاسبة، وجاء هذا النص ضمن الأسس التي يقوم عليها النظام الدستوري المغربي وهي « فصل السلط » و »الديمقراطية المواطنة والتشاركية » و »مبادئ الحكامة الجيدة »، وظل مبدأ الربط بين المسؤولية والمحاسبة يتردد في عدد من الخطابات السياسية الرسمية منها وغير الرسمية دون أن يعرف طريقه نحو التفعيل بشكل عملي وجاد.
وبمناسبة إعفاء عدد من الوزراء والمسؤولين الإداريين من مهامهم على خلفية توقف أو تعثر مشاريع (الحسيمة منارة المتوسط)، والذي جاء بعد احتجاجات شعبية دامت عدة شهور بمنطقة الحسيمة، كَثُر الكلام عن مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة وعن تفعيل هذا المبدأ الدستوري، مما يدعونا للتساؤل: هل يكفي إعفاء وزير أو كاتب عام أو مدير من مهامه كتطبيق للمبدأ المذكور؟ وللإجابة عن هذا التساؤل لابد من تحديد مفهوم المحاسبة الواجبة للوقوف على الإخلال بالمسؤولية السياسية أو الإدارية من عدمه، وما هي الآليات التي تتولى مهمة المحاسبة؟ وما هي المساطر التي تتبعها في القيام بوظيفتها؟ وأي ضمانات قانونية للحيلولة دون جعل العقاب مجرد سيف سلطوي لتصفية حسابات سياسية أو غيرها؟ ومن خلال البحث عن الإجابات سيتبين أن الأمر لا يتعلق بعملية مزاجية أو بإجراء ظرفي تستوجبه حاجة سياسية معينة، وإنما المحاسبة هي ركن أساسي للحكامة الجيدة وسلامة تفعيلها ترتكز على سيادة القانون الذي من المفروض أن يستوي أمامه الجميع في دولة المؤسسات.
وحينما نقول المحاسبة في مجال تدبير الشأن العام قد يتبادر إلى ذهن البعض أن الأمر ينحصر في المخالفات المادية المتعلقة باختلال الحسابات أو التدبير الذي يهم الجانب المالي كالصفقات والشراءات في القطاعات العمومية وغيرها من العناصر المادية، غير أن مضمون المحاسبة لا ينحصر في الجوانب التي لها أثر مالي وإنما يمتد أيضا لما هو سياسي واقتصادي واجتماعي وثقافي على أساس تقييم الجوانب المادية والمعنوية للعمليات والتدابير المتخذة أو التي تم التقصير في اتخاذها والآثار الناتجة عن ذلك ليس بالنسبة لكيفية صرف المال العام فقط وإنما كذلك بالنسبة لمستوى الخدمات العمومية ونسق التوجهات الأساسية للدولة ومصداقيتها وسمعتها ومكانتها في المجتمع الدولي، وقد تكون الأضرار المعنوية التي تصيب هذه الجوانب أفدح بكثير من سوء صرف المال العام أو اختلال في تدبير قضايا مادية.
وآليات المراقبة والمحاسبة تعد من العناصر الجوهرية في كل ديمقراطية تشاركية حقيقية وهي متعددة ومختلفة فمنها ما هو مؤسساتي رسمي كالبرلمان والمؤسسة الوطنية للافتحاص والتدقيق والتقويم، ومنها ما هو غير رسمي ويتعلق بدور الأحزاب السياسية والنقابات المهنية ومنظمات المجتمع المدني والصحافة ووسائل التواصل.
وبالنسبة للمؤسسات الرسمية يلاحظ بأن دور البرلمان المغربي في مجال مراقبة العمل الحكومي باهت وغالبا ما يبقى حبيس الأسئلة ذات الطابع العام لضعف المؤهلات ومحدودية المعرفة لدى نسبة كبيرة من البرلمانيين، كما أن الردود الحكومية تطغى عليها عادة لغة إنشائية ومضامين خشبية مما يجعل هذه الآلية غير ذات فعالية. وبالنسبة للجن البحث والتقصي التي يُحدثها البرلمان على قلتها فإن تقاريرها كثيرا ما تبقى مجمدة. وفيما يخص المؤسسة الوطنية للافتحاص يوجد المجلس الأعلى للحسابات وهذه تسمية غير دقيقة ولا تعبر عن فحوى واختصاصات المجلس الذي لا ينحصر دوره في مراقبة الحسابات وإنما يفتحص الاستراتيجيات المعتمدة وطرق التدبير التي لا تقتصر على الجانب المالي. وفيما يتعلق بدوره فإنه يُلاحظ أنه يقوم بعمليات انتقائية كما أن تقاريره في حالة وقوفه على اختلالات تبقى بدون متابعة مع بعض الاستثناءات القليلة.
والآليات غير الرسمية موجودة ومتعددة وتتفاوت من حيث أهميتها غير أن النتائج التي تتحقق على هذا المستوى تبقى جد محدودة لأن ما تثيره الأحزاب والنقابات والجمعيات والصحافة ووسائل التواصل تُواجه في كثير من الأحيان بالتغاضي واللامبالاة فينعدم التفاعل المجدي في المحاسبة والتقويم.
وإذا كانت المحاسبة ضرورية لضمان شفافية ونزاهة واستقامة سير المرافق العمومية وضمان الحكامة الجيدة فما هي الشروط الواجب توافرها لتحقيق الغاية المتوخاة منها؟
إن المحاسبة الموضوعية والفعالة في تحصين تدبير الشأن العام من الاختلال والانحراف لا يمكن أن تكون مزاجية أو انتقائية أو ظرفية أو وسيلة انتقامية لأسباب سياسية أو غيرها، وليست سلاحا في يد السلطة الحاكمة تستعمله عندما تريد، وإنما هي عملية تستند إلى القانون في شكلها وإجراءاتها وموضوعها وما يترتب عنها، وهي افتحاص موضوعي وحيادي يشمل أهداف وشكل ومضمون المسؤولية ونتائج مزاولتها، مع الأخذ بعين الاعتبار الوسائل المتوفرة وطريقة استعمالها والتزامها بمقتضيات القانون الذي يؤطرها ومدى تناسبها مع الحصيلة المنجزة.
ولا يمكن القيام بالمراقبة والمحاسبة على النحو المشار إليه إلا إذا كانت الجهة التي تتولى هذه المهمة تتمتع بالاستقلال والحياد ويتوفر طاقمها على المؤهلات الضرورية التي تكمن أساسا في المعرفة التامة بالقواعد القانونية المؤطرة لعملية الافتحاص والتدقيق والتقيد بمقتضياتها من حيث الشكل، والإلمام الواسع بكل الجوانب القانونية والإدارية والمهنية المتعلقة بالجهة الخاضعة للمراقبة والالتزام بالموضوعية والنزاهة في التحري والبحث قبل استخلاص الملاحظات وتكوين القناعة مما يتطلب إتاحة الفرصة للمسؤولين للتعبير عن موقفهم وتقديم كل التوضيحات والبيانات بشأن الأعمال التي يتحملون مسؤوليتها والظروف التي يشتغلون فيها والوسائل الموضوعة رهن إشارتهم لإنجاز مهامهم وغير ذلك من البيانات.
وحينما تؤدي المراقبة إلى إصدار قرار عقابي فلابد أن يكون معللا وموضحا لجانب التقصير أو الإخلال أو التلاعب الذي يرتب المسؤولية ويوجب العقاب أو التأديب، وباعتبار أن موضوع المراقبة والمحاسبة يتعلق بتدبير الشأن العام فلابد من توضيح أسباب المراقبة ونتائجها وحيثيات القرارات المتخذة بشأنها للرأي العام.
والأمم التي تتطور وتتقدم هي التي تحرص قبل الوصول إلى إعمال المراقبة والمحاسبة على الوقاية من الفساد والانحراف وذلك بوضع واحترام معايير موضوعية يحددها القانون وتضمن تكافؤ الفرص وتكون الكفاءة هي وحدها عنصر الترجيح في تعيين المسؤولين وإسناد المناصب، ولا يبق المجال مفتوحا للمحسوبية والزبونية التي تؤدي إلى تسرب عدد من الفاشلين والفاسدين لمواقع المسؤولية مما يؤدي للاختلال وإهدار ونهب المال العام وتعطيل وتعثر السير العادي للمرافق العمومية.